معهد الخوئي | Al-Khoei Institute

معهد الخوئي | Al-Khoei Institute
  • الإمام الخوئي
  • المكتبة المرئية
  • المكتبة الصوتية
  • المكتبة
  • الاستفتاءات

3- إعجاز القرآن الكريم

  • ١٨٩٠٨

إعجـاز القـرآن


 


 


* معنى الإعجاز.
* لا بد للنبي من إقامة المعجز.
* خير المعجزات ما شابه ارقى فنون العصر.
* القرآن معجزة إلهية.
* القرآن معجزة خالدة.
* القرآن والمعارف.
* القرآن والاستقامة في البيان.
* القرآن في نظامه وتشريعه.
* القرآن والإتقان في المعاني.
* القرآن والاخبار بالغيب.
* القرآن وأسراره الخليقة.


ــ[35]ــ


قد ذكر للاعجاز في اللغة عدة معان: الفوت. وجدان العجز. إحداثه كالتعجيز. فيقال: أعجزه الأمر الفلاني أي فاته، ويقال: أعجزت زيدا أي وجدته عاجزا، أو جعلته عاجزا.
وهو في الاصطلاح أن يأتي المدعي لمنصب من المناصب الإلهية بما يخرق نواميس الطبيعة ويعجز عنه غيره شاهدا على صدق دعواه.
وإنما يكون المعجز شاهدا على صدق ذلك المدعي إذا أمكن أن يكون صادقا في تلك الدعوى. وأما إذا امتنع صدقه في دعواه بحكم العقل، أو بحكم النقل الثابت عن نبي، أو إمام معلوم العصمة، فلا يكون ذلك شاهدا على الصدق، ولا يسمى معجزا في الاصطلاح وإن عجز البشر عن أمثاله:
مثال الأول: ما إذا ادعى أحد أنه إله، فان هذه الدعوى يستحيل أن تكون صادقة بحكم العقل، للبراهين الصحيحة الدالة على استحالة ذلك.
ومثال الثاني: ما إذا ادعى أحد النبوة بعد نبي الإسلام، فإن هذه الدعوى كاذبة قطعا بحكم النقل المقطوع بثبوته الوارد عن نبي الإسلام، وعن خلفائه المعصومين


ــ[36]ــ


 بأن نبوته خاتمة النبوات، وإذا كانت الدعوى باطلة قطعا، فماذا يفيد الشاهد إذا أقامه المدعي؟ ولا يجب على الله جل شأنه أن يبطل ذلك بعد حكم العقل باستحالة دعواه، أو شهادة النقل ببطلانها.
وقد يدعي أحد منصبا إلهيا ثم يأتي بشيء يعجز عنه غيره من البشر ويكون ذلك الشيء شاهدا على كذب ذلك المدعي ، كما يروى أن "مسيلمة" تفل في بئر قليلة الماء ليكثر ماؤها فغار جميع ما فيها من الماء، وأنه أمر يده على رؤوس صبيان بني حنيفة وحنكهم فأصاب القرع كل صبي مسح رأسه، ولثغ كل صبي حنكه (1) فإذا أتى المدعي بمثل هذا الشاهد لا يجب على الله أن يبطله، فإن في هذا كفاية لإبطال دعواه، ولا يسمى ذلك معجزا في الاصطلاح.
وليس من الإعجاز المصطلح عليه ما يظهره الساحر والمشعوذ، أو العالم ببعض العلوم النظرية الدقيقة، وإن أتى بشيء يعجز عنه غيره، ولا يجب على الله إبطاله إذا علم استناده في عمله إلى أمر طبيعي من سحر، أو شعبذة، أو نحو ذلك وإن ادعى ذلك الشخص منصبا إلهيا، وقد أتى بذلك الفعل شاهدا على صدقه، فإن العلوم النظرية الدقيقة لها قواعد معلومة عند أهلها، وتلك القواعد لابد من أن توصل إلى نتائجها، وإن احتاجت إلى دقة في التطبيق، وعلى هذا القياس تخرج غرائب علم الطب المنوطة بطبايع الأشياء، وإن كانت خفية على عامة الناس، بل وإن كانت خفية على الأطباء أنفسهم.
وليس من القبيح أن يختص الله أحدا من خلقه بمعرفة شيء من تلك الأشياء، وإن كانت دقيقة وبعيدة عن متناول أيدي عامة الناس، ولكن القبيح أن يغري الجاهل بجهله، وأن يجري المعجز على يد الكاذب فيضل الناس عن طريق الهدى.
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الكامل لابن الأثير: 2 / 38 1.


ــ[37]ــ


لابد للنبي من إقامة المعجز:
تكليف عامة البشر واجب على الله سبحانه، وهذا الحكم قطعي قد ثبت بالبراهين الصحيحة، والأدلة العقلية الواضحة، فإنهم محتاجون إلى التكليف في طريق تكاملهم، وحصولهم على السعادة الكبرى، والتجارة الرابحة. فإذا لم يكلفهم الله سبحانه، فإما أن يكون ذلك لعدم علمه بحاجتهم إلى التكليف، وهذا جهل يتنزه عنه الحق تعالى، وإما لأن الله أراد حجبهم عن الوصول إلى كمالاتهم، وهذا بخل يستحيل على الجواد المطلق، وإما لأنه أراد تكليفهم فلم يمكنه ذلك، وهو عجز يمتنع على القادر المطلق، وإذن فلابد من تكليف البشر، ومن الضروري أن التكليف يحتاج إلى مبلغ من نوع البشر يوقفهم على خفي التكليف وجليه:
{ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة}(8: 42).
ومن الضروري أيضا أن السفارة الإلهية من المناصب العظيمة التي يكثر لها المدعون، ويرغب في الحصول عليها الراغبون، ونتيجة هذا أن يشتبه الصادق بالكاذب، ويختلط المضل بالهادي. وإذن فلابد لمدعي السفارة أن يقيم شاهدا واضحا يدل على صدقه في الدعوى، وأمانته في التبليغ، ولا يكون هذا الشاهد من الأفعال العادية التي يمكن غيره أن يأتي بنظيرها، فينحصر الطريق بما يخرق النواميس الطبيعية.
وإنما يكون الإعجاز دليلا على صدق المدعي، لأن المعجز فيه خرق للنواميس الطبيعية، فلا يمكن أن يقع من أحد إلا بعناية من الله تعالى، وإقدار منه، فلو كان مدعي النبوة كاذبا في دعواه، كان إقداره على المعجز من قبل الله تعالى إغراء بالجهل وإشادة بالباطل، وذلك محال على الحكيم تعالى. فإذا ظهرت المعجزة على يده كانت


ــ[38]ــ


دالة على صدقه، وكاشفة عن رضا الحق سبحانه بنبوته.
وما ذكرناه قاعدة مطردة يجري عليها العقلاء من الناس فيما يشبه هذه الأمور، ولا يشكون فيها أبدا، فإذا ادعى أحد من الناس سفارة عن ملك من الملوك في أمور تختص برعيته، كان من الواجب عليه أولا أن يقيم على دعواه دليلا يعضدها، حين تشك الرعية في صدقه، ولابد من أن يكون ذلك الدليل في غاية الوضوح، فإذا قال لهم ذلك السفير: الشاهد على صدقي أن الملك غدا سيحيّيني بتحيته الخاصة التي يحيي بها سفراءه الآخرين. فإذا علم الملك ما جرى بين السفير وبين الرعية، ثم حياه في الوقت المعين بتلك التحية، كان فعل الملك هذا تصديقا للمدعي في السفارة ولا يرتاب العقلاء في ذلك لأن الملك القادر المحافظ على مصالح رعيته يقبح عليه أن يصدق هذا المدعي إذا كان كاذبا، لأنه يريد إفساد الرعية.
وإذا كان هذا الفعل قبيحا من سائر العقلاء كان محالا على الحكيم المطلق، وقد أشار سبحانه إلى هذا المعنى بقوله في كتابه الكريم:
{ولو تقول علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين}( 69: 44 – 46).
والمراد من الآية الكريمة أن محمدا الذي أثبتنا نبوته، وأظهرنا المعجزة لتصديقه، لا يمكن أن يتقول علينا بعض الأقاويل، ولو صنع ذلك لأخذنا منه باليمين، ولقطعنا منه الوتين، فإن سكوتنا عن هذه الأقاويل إمضاء منا لها، وإدخال للباطل في شريعة الهدى، فيجب علينا حفظ الشريعة في مرحلة البقاء، كما وجب علينا في مرحلة الحدوث.


ــ[39]ــ


ولكن دلالة المعجز على صدق مدعي النبوة متوقفة على القول بأن العقل يحكم بالحسن والقبح. أما الأشاعرة الذين ينكرون هذا القول، ويمنعون حكم العقل بذلك فلا بد لهم من سد باب التصديق بالنبوة. وهذا أحد مفاسد هذا القول، وإنما لزم من قولهم هذا سد باب التصديق بالنبوة، لأن المعجز إنما يكون دليلا على صدق النبوة إذا قبح في العقل أن يظهر المعجز على يد الكاذب وإذا لم يحكم العقل بذلك لم يستطع أحد أن يميز بين الصادق والكاذب.
وقد أجاب "الفضل بن روزبهان" عن هذا الإشكال بأن فعل القبيح وإن كان ممكنا على الله تعالى، ولكن عادة الله قد جرت على تخصيص المعجزة بالصادق، فلا تظهر معجزة على يد الكاذب، ولا يلزم سد باب التصديق بالنبوة على قول الأشعريين. وهذا الجواب بين الضعف، متفكك العرى.
أولا: إن عادة الله التي يخبر عنها "ابن روزبهان" ليست من الأمور التي تدرك بالحس، ويقع عليها السمع والبصر، فينحصر طريق العلم بها بالعقل، وإذا امتنع على العقل أن يحكم بالحسن والقبح - كما يراه الأشعري - لم يكن لأحد أن يعلم باستقرار هذه العادة لله تعالى.
ثانيا: إن إثبات هذه العادة يتوقف على تصديق الأنبياء السابقين، الذين جاءوا بالمعجزات حتى نعلم أن عادة الله قد استقرت على تخصيص المعجزة بالصادق. أما المنكرون لتلك النبوات، أو المشككون فيها فلا طريق لهم إلى إثبات هذه العادة التي يدعيها "ابن روزبهان " فلا تقوم عليهم الحجة بالمعجزة.
ثالثا: إذا تساوى الفعل والترك في نظر العقل، ولم يحكم في ذلك بقبح ولا حسن، فأي مانع يمنع الله أن يغير عادته؟ وهو القادر المطلق الذي لا يسأل عما يفعل،


ــ[40]ــ


 فيظهر المعجزة على يد الكاذب.
رابعا: إن العادة من الأمور الحادثة التي تحصل من تكرر العمل، وهو يحتاج إلى مضي زمان. وعلى هذا فما هي الحجة على ثبوت النبوة الأولى الثابتة قبل أن تستقر هذه العادة؟ وسنتعرض لأقوال الأشعريين فيما يأتي، ونوضح وجوه فسادها.
خير المعجزات ما شابه أرقى فنون العصر:
المعجز-كما عرفت - هو ما يخرق نواميس الطبيعة، ويعجز عنه سائر أفراد البشر إذا أتى به المدعي شاهدا على سفارة إلهية. ومما لا يرتاب فيه أن معرفة ذلك تختص بعلماء الصنعة التي يشابهها ذلك المعجز، فإن علماء أي صنعة أعرف بخصوصياتها، وأكثر إحاطة بمزاياها، فهم يميزون بين ما يعجز البشر عن الإتيان بمثله وبين ما يمكنهم. ولذلك فالعلماء أسرع تصديقا بالمعجز. أما الجاهل فباب الشك عنده مفتوح على مصراعيه مادام جاهلا بمبادئ الصنعة، وما دام يحتمل أن المدعي قد اعتمد على مبادئ معلومة عند الخاصة من أهل تلك الصنعة، فيكون متباطئا عن الاذعان. ولذلك اقتضت الحكمة الإلهية أن يخص كل نبي بمعجزة تشابه الصنعة المعروفة في زمانه، والتي يكثر العلماء بها من أهل عصره، فإنه أسرع للتصديق وأقوم للحجة، فكان من الحكمة أن يخص موسى(عليه السلام) بالعصا واليد البيضاء لما شاع السحر في زمانه وكثر الساحرون. ولذلك كانت السحرة أسرع الناس إلى تصديق ذلك البرهان والاذعان به، حين رأوا العصا تنقلب ثعبانا، وتلقف ما يأفكون ثم ترجع إلى حالتها الأولى. رأى علماء السحر ذلك فعلموا أنه خارج عن حدود السحر وآمنوا بأنه معجزة إلهية. وأعلنوا إيمانهم في مجلس فرعون ولم يعبأوا بسخط فرعون ولا بوعيده.


ــ[41]ــ


وشاع الطب اليوناني في عصر المسيح (عليه السلام) وأتى الأطباء في زمانه بالعجب العجاب، كان للطب رواج باهر في سوريا وفلسطين، لأنهما كانتا مستعمرتين لليونان.
وحين بعث الله نبيه المسيح في هذين القطرين شاءت الحكمة أن تجعل برهانه شيئا يشبه الطب، فكان من معجزاته أن يحيي الموتى، وأن يبرئ الأكمه والأبرص. ليعلم أهل زمانه أن ذلك شيء خارج عن قدرة البشر، وغير مرتبط بمبادئ الطب، وأنه ناشئ عما وراء الطبيعة.
وأما العرب فقد برعت في البلاغة، وامتازت بالفصاحة، وبلغت الذروة في فنون الأدب، حتى عقدت النوادي وأقامت الأسواق للمباراة في الشعر والخطابة. فكان المرء يقدر على ما يحسنه من الكلام، وبلغ من تقديرهم للشعر أن عمدوا لسبع قصائد من خيرة الشعر القديم، وكتبوها بماء الذهب في القباطي، وعلقت على الكعبة، فكان يقال هذه مذهبة فلان إذا كانت أجود شعره (1).
واهتمت بشأن الأدب رجال العرب ونساؤهم، وكان النابغة الذبياني هو الحكم في شعر الشعراء. يأتي سوق عكاظ في الموسم فتضرب له قبة حمراء من الادم، فتأتيه الشعراء تعرض عليه أشعارها ليحكم فيها(2) ولذلك اقتضت الحكمة أن يخص نبي الإسلام بمعجزة البيان، وبلاغة القرآن فعلم كل عربي أن هذا من كلام الله، وأنه خارج ببلاغته عن طوق البشر، واعترف بذلك كل عربي غير معاند.
ويدل على هذه الحقيقة ما روي عن ابن السكيت أنه قال لأبي الحسن الرضا (عليه السلام):
"لماذا بعث الله موسى بن عمران (عليه السلام) بالعصا، ويده البيضاء، وآلة السحر؟ وبعث عيسى بآلة الطب؟ وبعث محمداً (صلى الله عليه وآله) وعلى
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) العمدة: لابن رشيق: 1 / 78.
(2) شعراء النصرانية: 2 /. 64، ط. بيروت.


ــ[42]ــ


جميع الأنبياء – بالكلام
والخطب؟ فقال أبو الحسن (عليه السلام): إن الله لما بعث موسى (عليه السلام) كان الغالب على أهل عصره السحر، فأتاهم من عند الله بما لم يكن في وسعهم مثله، وما أبطل به سحرهم، وأثبت به الحجة عليهم. وإن الله بعث عيسى (عليه السلام) في وقت قد ظهرت فيه الزمانات، واحتاج الناس إلى الطب، فأتاهم من عند الله بما لم يكن عندهم مثله، وبما أحيى لهم الموتى، وأبرأ الأكمه والابرص بإذن الله، وأثبت به الحجة عليهم. وإن الله بعث محمدا (صلى الله عليه وآله) في وقت كان الغالب على أهل عصره الخطب والكلام – وأظنه قال الشعر – فأتاهم من عند الله من مواعظه وحكمه ما أبطل به قولهم، وأثبت به الحجة عليهم "(1).
وقد كانت للنبي معجزات أخرى غير القرآن، كشق القمر، وتكلم الثعبان، وتسبيح الحصى، ولكن القرآن أعظم هذه المعجزات شأنا، وأقومها بالحجة، لأن العربي الجاهل بعلوم الطبيعة وأسرار التكوين، قد يشك في هذه المعجزات، وينسبها إلى أسباب علمية يجهلها. وأقرب هذه الأسباب إلى ذهنه هو السحر فهو ينسبها إليه، ولكنه لا يشك في بلاغة القرآن وإعجازه، لأنه يحيط بفنون البلاغة، ويدرك أسرارها. على أن تلك المعجزات الأخرى مؤقتة لا يمكن لها البقاء، فسرعان ما تعود خبرا من الأخبار ينقله السابق للاحق، وينفتح فيه باب التشكيك. أما القرآن فهو باق إلى الأبد، وإعجازه مستمر مع الأجيال. وسنضع بحثا خاصا عن معجزات النبي غير القرآن، ونتفرغ فيه لمحاسبة من أنكر هذه المعجزات من الكتّاب المعاصرين وغيرهم.
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1)اصول الكافي: 1 / 24، الحديث : 20.


ــ[43]ــ


القرآن معجزة إلهية:
قد علم كل عاقل بلغته الدعوة الإسلامية، أن محمداً(صلى الله عليه وآله) بشّر جميع الأمم بدعوتهم إلى الإسلام، وأقام الحجة عليهم بالقرآن، وتحداهم بإعجازه، وطلب منهم أن يأتوا بمثله وإن كان بعضهم لبعض ظهيرا، ثم تنزل عن ذلك فطلب منهم أن يأتوا بعشر سور مثله مفتريات، ثم تحدّاهم إلى الإتيان بسورة واحدة.
وكان من الجدير بالعرب - وفيهم الفصحاء النابغون في الفصاحة - أن يجيبوه إلى ما يريد، ويسقطوا حجته بالمعارضة، لو كان ذلك ممكنا غير مستحيل. نعم كان من الجدير بهم أن يعارضوا سورة واحدة من سور القرآن، ويأتوا بنظيرها في البلاغة، فيسقطوا حجة هذا المدعي الذي تحداهم في أبرع كمالاتهم، وأظهر ميزاتهم، ويسجلوا لأنفسهم ظهور الغلبة وخلود الذكر، وسمو الشرف والمكانة، ويستريحوا بهذه المعارضة البسيطة من حروب طاحنة، وبذل أموال، ومفارقة أوطان، وتحمل شدائد ومكاره.
ولكن العرب فكرت في بلاغة القرآن فأذعنت لإعجازه، وعلمت أنها مهزومة إذا أرادت المعارضة، فصدق منها قوم داعي الحق، وخضعوا لدعوة القرآن، وفازوا بشرف الإسلام، وركب آخرون جادة العناد، فاختاروا المقابلة بالسيوف على المقاومة بالحروف، وآثروا المبارزة بالسنان على المعارضة في البيان، فكان هذا العجز والمقاومة أعظم حجة على أن القرآن وحي إلهي خارج عن طوق البشر.
وقد يدعي جاهل من غير المسلمين: أن العرب قد أتت بمثل القرآن وعارضته بالحجة، وقد اختفت علينا هذه المعارضة لطول الزمان.


ــ[44]ــ


وجواب ذلك: أن هذه المعارضة لو كانت حاصلة لأعلنتها العرب في أنديتها، وشهرتها في مواسمها وأسواقها. ولأخذ منه أعداء الإسلام نشيدا يوقعونه في كل مجلس، وذكرا يرددونه في كل مناسبة، وللقنه السلف للخلف، وتحفظوا عليه تحفظ المدعي على حجته، وكان ذلك أقر لعيونهم من الاحتفاظ بتاريخ السلف، وأشعار الجاهلية التي ملأت كتب التاريخ، وجوامع الأدب، مع أنا لا نرى أثراً لهذه المعارضة، ولا نسمع لها بذكر. على أن القرآن الكريم قد تحدّى جميع البشر بذلك، بل جميع الإنس والجن، ولم يحصر ذلك بجماعة خاصة. فقال عز من قائل:
{قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا}(17: 88).
ونحن نرى النصارى وأعداء الإسلام، يبذلون الأموال الطائلة في الحط من كرامة هذا الدين، والنيل من نبيه الأعظم، وكتابه المقدس، ويتكرر هذا العمل منهم في كل عام بل في كل شهر. فلو كان من الميسور لهم أن يعارضوا القرآن، ولو بمقدار سورة منه، لكان هذا أعظم لهم في الحجة، وأقرب لحصول الامنية، ولما احتاجوا إلى صرف هذه الأموال، وإتعاب النفوس.
{يريدون ليطفؤا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون} (61 : 8).
على أن من مارس كلاما بليغا، وبالغ في ممارسته زمانا، أمكنه أن يأتي بمثله أو بما يقاربه في الاسلوب، وهذا مشاهد في العادة، ولا يجري مثل هذا في القرآن، فإن كثرة ممارسته ودراسته، لا تمكّن الإنسان من مشابهته في قليل ولا كثير، وهذا يكشف لنا أن للقران أسلوبا خارجا عن حدود التعليم والتعلم، ولو كان القرآن من كلام الرسول وإنشائه، لوجدنا في بعض خطبه وكلماته ما يشبه القرآن في اسلوبه،


ــ[45]ــ


ويضارعه في بلاغته. وكلمات الرسول (صلى الله عليه وآله) وخطبه محفوظة مدونة تختص بأسلوب آخر. ولو كان في كلماته ما يشبه القرآن لشاع نقله وتدوينه، وخصوصا من أعدائه الذين يريدون كيد الإسلام بكل وسيلة وذريعة. مع أن للبلاغة المألوفة حدودا لا تتعداها في الأغلب، فإنا نرى البليغ العربي الشاعر أو الناثر تختص بلاغته في جهة واحدة، أو جهتين أو ثلاث جهات، فيجيد في الحماسة مثلا دون المديح، أو في الرثاء دون النسيب. والقرآن قد استطرد مواضيع عديدة، وتعرض لفنون من الكلام كثيرة، وأتى في جميع ذلك بما يعجز عنه غيره، وهذا ممتنع على البشر في العادة.
القرآن معجزة خالدة:
قد عرفت أن طريق التصديق بالنبوة والإيمان بها، ينحصر بالمعجز الذي يقيمه النبي شاهدا لدعواه، ولما كانت نبوءات الأنبياء السابقين مختصة بأزمانهم وأجيالهم، كان مقتضى الحكمة أن تكون معاجزهم مقصورة الأمد، ومحدودة، لأنها شواهد على نبوءات محدودة، فكان البعض من أهل تلك الأزمنة يشاهد تلك المعجزات فتقوم عليه الحجة، والبعض الآخر تنقل إليه أخبارها من المشاهدين على وجه التواتر، فتقوم عليه الحجة أيضا.
أما الشريعة الخالدة، فيجب أن تكون المعجزة التي تشهد بصدقها خالدة أيضا، لأن المعجزة إذا كانت محدودة قصيرة الأمد لم يشاهدها البعيد، وقد تنقطع أخبارها المتواترة، فلا يمكن لهذا البعيد أن يحصل له العلم بصدق تلك النبوة، فإذا كلفه الله بالإيمان بها كان من التكليف بالممتنع، والتكليف بالممتنع مستحيل على الله تعالى، فلابد للنبوة الدائمة المستمرة من معجزة دائمة. وهكذا أنزل الله القرآن معجزة خالدة ليكون برهانا على صدق الرسالة الخالدة، وليكون حجة على الخلف كما كان حجة


ــ[46]ــ


على السلف. وقد نتج لنا عما قدمناه أمران:
الأول: تفوق القرآن على جميع المعجزات التي ثبتت للأنبياء السابقين، وعلى المعجزات الأخرى التي ثبتت لنبينا محمد (صلى الله عليه وآله) لكون القرآن باقيا خالدا، وكون إعجازه مستمرا يسمع الأجيال ويحتج على القرون.
الثاني: إن الشرائع السابقة منتهية منقطعة، والدليل على انتهائها هو انتهاء أمد حجتها وبرهانها، لانقطاع زمان المعجزة التي شهدت بصدقها(1).
ثم إن القرآن يختص بخاصة أخرى، وبها يتفوق على جميع المعجزات التي جاء بها الأنبياء السابقون، وهذه الخاصة هي تكفله بهداية البشر(2)، وسوقهم إلى غاية كمالهم. فإن القرآن هو المرشد الذي أرشد العرب الجفاة الطغاة، المعتنقين أقبح العادات والعاكفين على الأصنام، والمشتغلين - عن تحصيل المعارف وتهذيب النفوس - بالحروب الداخلية، والمفاخرات الجاهلية فتكونت منهم - في مدة يسيرة - أمة ذات خطر في معارفها، وذات عظمة في تاريخها، وذات سمو في عاداتها. ومن نظر في تاريخ الإسلام وسبر تراجم أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله) المستشهدين بين يديه، ظهرت له عظمة القرآن في بليغ هدايته، كبير أثره، فإنه هو الذي أخرجهم من حضيض الجاهلية إلى أعلى مراتب العلم والكمال،
وجعلهم يتفانون في سبيل الدين وإحياء إلشريعة، ولا يعبأون بما تركوا من مال وولد وأزواج.
وإن كلمة المقداد لرسول الله (صلى الله عليه وآله) حين شاور المسلمين في الخروج إلى بدر شاهد عدل على ما قلنا:
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) انظر في قسم التعليقات محادثة علمية جرت بين المؤلف وبين حبر يهودي يتصل بهذا الموضوع برقم (4).
(2) انظر قسم التعليقات لمعرفة الحاجة إلى ترجمة القرآن وشروطها برقم (5).


ــ[47]ــ


"يا رسول الله أمضي لما أمرك الله فنحن معك، والله لا نقول كما قالت بنو إسرائيل لموسى: {اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون} ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون، فوالذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى برك الغماد - يعني مدينة الحبشة - لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه. فقال له رسول الله (صلى الله عليه وآله) خيرا، ودعا له بخير"(1).
هذا واحد من المسلمين، يعرب عن عقيدته وعزمه، وتفانيه في إحياء الحق، وإماتة الشرك. وكان الكثير منهم على هذه العقيدة، متذرعين بالإخلاص.
إن القرآن هو الذي نور قلوب أولئك العاكفين على الأصنام، المشتغلين بالحروب الداخلية والمفاخرات الجاهلية، فجعلهم أشداء على الكفار رحماء بينهم. يؤثر أحدهم حياة صاحبه على نفسه، فحصل للمسلمين بفضل الإسلام من فتوح البلدان في ثمانين سنة ما لم يحصل لغيرهم في ثمانمائة سنة. ومن قارن بين سيرة أصحاب النبي وسيرة أصحاب الأنبياء السابقين علم أن في ذلك سرا إلهيا، وأن مبدأ هذا السر هو كتاب الله الذي أشرق على النفوس، وطهر القلوب والأرواح بسمو العقيدة، وثبات المبدأ.
انظر إلى تاريخ الحواريين، وإلى تاريخ غيرهم من أصحاب الأنبياء تعلم كيف كانوا. كانوا يخذلون أنبياءهم عند الشدائد، ويسلمونهم عند خشية الهلاك!! ولذلك لم يكن لأولئك الأنبياء تقدم على طواغيت زمانهم بل كانوا يتسترون عنهم بالكهوف والأودية.هذه هي الخاصة الثانية التي تفضل القرآن على سائر المعجزات.
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) تاريخ الطبري: 2 / 140، غزوة بدر.


ــ[48]ــ


وإذ قد عرفت أن القرآن معجزة إلهية، في بلاغته وأسلوبه فاعلم أن اعجازه لا ينحصر في ذلك، بل هو معجزة ربانية، وبرهان صدق على نبوة من انزل إليه من جهات شتى، فيحسن بنا أن نتعرض إلى جملة منها على نحو الاختصار:
1 ـ القرآن والمعارف:

صرح الكتاب في كثير من آياته الكريمة بأن محمداً (صلى الله عليه وآله) أمي، وقد جهر النبي بهذه الدعوى بين ملأ من قومه وعشيرته الذين نشأ بين أظهرهم، وتربى في أوساطهم، فلم ينكر أحد عليه هذه الدعوى، وفي ذلك دلالة قطعية على صدقه فيما يدعيه. ومع أميته فقد أتى في كتابه من المعارف بما أبهر عقول الفلاسفة، وأدهش مفكري الشرق والغرب منذ ظهور الإسلام إلى هذا اليوم، وسيبقى موضعا لدهشة المفكرين، وحيرتهم إلى اليوم الأخير، وهذا من أعظم نواحي الإعجاز.
ولنتنازل للخصوم عن هذه الدعوى، ولنفرض أن محمد (صلى الله عليه وآله) لم يكن أميا، ولنتصوره قد تلقن المعارف، وأخذ الفنون والتاريخ بالتعليم، أفليس لازم هذا أنه اكتسب معارفه وفنونه من مثقفي عصره الذين نشأ بين أظهرهم؟ ونحن نرى هؤلاء الذين نشأ محمد (صلى الله عليه وآله) بينهم، منهم وثنيون يعتقدون بالأوهام، ويؤمنون بالخرافات، وذلك ظاهر. ومنهم كتابيون يأخذون معارفهم وتأريخهم، وأحكامهم من كتب العهدين التي ينسبونها إلى الوحي، ويعزونها إلى الأنبياء. وإذا فرضنا أن محمداً (صلى الله عليه وآله) أخذ تعاليمه من أهل عصره، أفليس لازم هذا أن ينعكس على أقواله ومعارفه ظلال هذه العقائد التي اكتسبها من معلميه ومرشديه ومن هذه الكتب التي كانت مصدر ثقافته وعلومه؟ ونحن نرى مخالفة القرآن لكتب العهدين في جميع النواحي، وتنزيه


ــ[49]ــ


لحقائق المعارف عن الموهومات الخرافية التي ملأت كتب العهدين وغيرها من مصادر التعلم في ذلك العصر.
وقد تعرض القرآن الكريم لصفات الله جل شأنه في آيات كثيرة، فوصفه بما يليق بشأنه من صفات الكمال، ونزهه عن لوازم النقص والحدوث. وهذه نماذج منها:
{وقالوا اتخذ الله ولدا سبحانه بل له ما في السماوات والارض كل له قانتون (2: 116) بديع السماوات والأرض وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون: 117. وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم 163. الله لا إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم له ما في السماوات وما في الأرض: 255. إن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء: 3 : 5. هو الذي يصوركم في الارحام كيف يشاء لا إله إلا هو العزيز الحكيم: 6. ذلكم الله ربكم لا إله إلا هو خالق كل شيء فاعبدوه وهو على كل شيء وكيل 6: 102. لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير: 103. قل الله يبدؤا الخلق ثم يعيده فأنى تؤفكون 10: 34. الله الذي رفع السماوات بغير عمد ترونها ثم استوى على العرش وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى يدبر الأمر يفصل الآيات لعلكم بلقاء ربكم توقنون 13: 2. وهو الله لا إله إلا هو له الحمد في الأولى والآخرة وله الحكم وإليه ترجعون 28: 70. هو الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة هو الرحمن الرحيم 59: 22. هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن


ــ[50]ــ


المهمين العزيز الجبار المتكبر سبحان الله عما يشركون 23. هو الله الخالق البارئ المصور له الأسماء الحسنى يسبح له ما في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم:24}.
هكذا يصف القرآن إله العالمين، ويأتي بالمعارف التي تتمشّى مع البرهان الصريح، ويسير مع العقل الصحيح، وهل يمكن لبشر أمي نشأ في محيط جاهل أن يأتي بمثل هذه المعارف العالية؟.
ويتعرض القرآن لذكر الأنبياء فيصفهم بكل جميل ينبغي أن يوصفوا به، وينسب إليهم كل مأثرة كريمة تلازم قداسة النبوة، ونزاهة السفارة الإلهية، وإليك نماذج منها: {الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث 7: 157. هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين 62: 2. وإن لك لأجرا غير ممنون 68: 3. وإنك لعلى خلق عظيم: 4. إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين 3: 23. وإذ قال إبراهيم لأبيه وقومه إنني براء مما تعبدون 43: 26. إلا الذي فطرني فإنه سيهدين: 27. وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين 6 : 75. ووهبنا له إسحق ويعقوب كلا هدينا ونوحا هدينا من قبل ومن ذريته داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهرون وكذلك نجزي المحسنين: 84. وزكريا ويحيى وعيسى


ــ[51]ــ


وإلياس كل من الصالحين:85. وإسماعيل واليسع ويونس ولوطا وكلا فضلنا على العالمين: 86. ومن آبائهم وذرياتهم وإخوانهم واجتبيناهم وهديناهم إلى صراط مستقيم: 87. ولقد اتينا داود وسليمان علما وقالا الحمد لله الذي فضلنا على كثير من عباده المؤمنين 27: 15. واذكر إسماعيل واليسع وذا الكفل كل من الأخيار 38 : 48. أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين من ذرية آدم وممن حملنا مع نوح ومن ذرية إبراهيم وإسرائيل وممن هدينا واجتبينا إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجدا وبكيا 19: 58}.
هذه جملة من الآيات التي جاء بها الكتاب العزيز في تنزيه الأنبياء وتقديسهم، وإظهارهم على حقيقتهم من القداسة والنزاهة وجميل الذكر.
أما كتب العهدين فقد تعرضت أيضا لذكر الأنبياء ووصفتهم، ولكن بماذا وصفتهم؟ بأي منزلة وضيعة أنزلت هؤلاء السفرة الأبرار، ولنذكر لذلك أمثلة:
1 ـ ذكرت التوراة في الإصحاحين الثاني والثالث من سفر التكوين قصة آدم وحواء خروجهما من الجنة. وذكرت أن الله أجاز لآدم أن يأكل من جميع الأثمار إلا ثمرة شجرة معرفة الخير والشر. وقال له: "لأنك يوم تأكل منها موتا تموت" ثم خلق الله من آدم زوجته حواء وكانا عاريين في الجنة لأنهما لا يدركان الخير والشر، وجاءت الحية ودلتهما على الشجرة، وحرضتهما على الأكل من ثمرها وقالت: إنكما لا تموتان بل إن الله عالم أنكما يوم تأكلان منه تنفتح أعينكما وتعرفان الخير والشر فلما أكلا منها انفتحت أعينهما، وعرفا أنهما عاريان. فصنعا لأنفسهما مئزرا فرآهما الرب وهو يتمشى في الجنة، فاختبأ آدم وحواء منه فنادى الله آدم أين أنت؟ فقال آدم:


ــ[52]ــ


سمعت صوتك فاختبأت لأني عريان. فقال الله: من أعلمك بأنك عريان، هل أكلت من الشجرة؟ ثم إن الله بعدما ظهر له أكل آدم من الشجرة. قال: هو ذا آدم صار كواحد منا عارف بالخير والشر، والآن يمد يده فيأكل من شجرة الحياة، ويعيش إلى الأبد، فأخرجه الله من الجنة، وجعل على شرقيها ما يحرس طريق الشجرة. وذكر في العدد التاسع من الإصحاح الثاني عشر أن الحية القديمة هو المدعو إبليس، والشيطان الذي يضل العالم كله.
انظر كيف تنسب كتب الوحي إلى قداسة الله أنه كذب على آدم، وخادعه في أمر الشجرة، ثم خاف من حياته، وخشي من معارضته إياه في استقلال مملكته فأخرجه من الجنة، وأن الله جسم يتمشى في الجنة، وأنه جاهل بمكان آدم حين اختفى عنه، وأن الشيطان المضل نصح لادم، واخرجه من ظلمة الجهل إلى نور المعرفة، وادراك الحسن والقبح.
2 ـ وفي الإصحاح الثاني عشر من التكوين: أن "ابراهيم " إدعى أمام "فرعون" أن "سارة" اخته وكتم أنها زوجته، فأخذها فرعون لجمالها "وصنع إلى ابراهيم خيرا بسببها، و صار له غنم وبقر وحمير وعبيد وإماء وأتن وجمال". وحين علم فرعون أن سارة كانت زوجة إبراهيم وليست اخته قال له: "لماذا لم تخبرني أنها امرأتك؟ لماذا قلت: هي اختي حتى أخذتها لي لتكون زوجتي ". ثم رد فرعون سارة إلى إبراهيم.
ومغزى هذه القصة أن إبراهيم صار سببا لأخذ فرعون سارة زوجة إبراهيم، زوجة له. وحاشا إبراهيم - وهو من أكرم أنبياء الله - أن يرتكب ما لا يرتكبه فرد عادي من الناس.


ــ[53]ــ


3 ـ وفي الإصحاح التاسع عشر من سفر التكوين: قصة "لوط " مع ابنتيه في الجبل، وأن الكبيرة قالت لاختها: "أبونا قد شاخ وليس في الأرض رجل ليدخل علينا. هلمي نسقي أبانا خمرا، ونضطجع معه فنحيي من أبينا نسلا فسقتا أباهما خمرا في تلك الليلة" واضطجعت معه الكبيرة. وفي الليلة الثانية سقتاه الخمر أيضا، ودخلت معه الصغيرة فحملتا منه، وولدت الكبيرة ابنا وسمته "موآب" وهو أب الموآبين، وولدت الصغيرة ابنا فسمته "بن عمي " وهو أبو بني عمون إلى اليوم.
هذا ما نسبته التوراة الرائجة إلى لوط نبي الله وإلى ابنتيه، وليحكم الناظر فيها عقله، ثم ليقل ما يشاء.
4 ـ وفي الإصحاح السابع والعشرين من التكوين: أن "إسحق" أراد أن يعطي ابنه "عيسو" بركة النبوة فخادعه "يعقوب" وأوهمه أنه عيسو، وقدم له طعاما وخمرا فأكل وشرب، وبهذه الحيلة والكذب المتكرر توسل إلى أن باركه الله. وقال له اسحق: "كن سيدا لاخوتك، ويسجد لك بنو أمك ليكن لاعنوك ملعونين، ومباركوك مباركين" ولما جاء عيسو علم أن أخاه يعقوب قد انتهب بركة النبوة. فقال لأبيه: "باركني أنا أيضا يا أبي. فقال: جاء أخوك بمكر وأخذ بركتك ". ثم قال عيسو: "أما أبقيت لي بركة؟" فقال إسحق: "إني قد جعلته سيدا لك، ودفعت إليه جميع إخوته عبيدا، وعضدته بحنطة وخمر. فماذا أصنع إليك يا أبني؟ ورفع عيسو صوته وبكى".
أفهل يعقل انتهاب النبوة؟ وهل يعطي الله نبوته لمخادع كاذب، ويحرم منها أهلها؟ هل أن يعقوب بعمله هذا خادع الله أيضا كما خادع إسحق ولم يقدر الله بعد ذلك على إرجاعها إلى أهلها؟!! تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا. ولعل سكرة الخمر دعت إلى وضع هذه السخافة، وإلى نسبة شرب الخمر إلى إسحق. 


ــ[54]ــ


5 ـ وفي الإصحاح الثامن والثلاثين من التكوين: أن "يهوذا" بن يعقوب زنى بزوجة ابنه "عير" المسماة "بثامار" وأنها حبلت منه وولدت له ولدين "فارص" و"زارح"، وقد ذكر إنجيل متى في الإصحاح الأول نسب يسوع المسيح تفصيلا، وجعل المسيح وسليمان وأباه داود من نسل فارص "هذا الذي ولد من زنا يهوذا بكنّته (1) ثامار".
حاشا أنبياء الله أن يولدوا من الزنى، كيف وأن تنسب إليهم الولادة من الزنى بذات محرم!! ولكن واضع التوراة الرائجة لا يبالي بما يكتب وبما يقول!!.
6 ـ وفي الإصحاحين الحادي والثاني عشر من صموئيل الثاني: أن داود زنى بامرأة "اوريا" المجاهد المؤمن. وحملت من ذلك الزنى، فخشي داود الفضيحة، وأراد تمويه الأمر على اوريا، فطلبه وأمره أن يدخل بيته فأبى "اوريا" وقال: "سيدي - يوآب - وعبيد سيدي نازلون على وجه الصحراء، وأنا آتي إلى بيتي لآكل وأشرب وأضطجع مع امرأتي، وحياتك وحياه نفسك لا أفعل هذا الأمر" فلما يئس داود من التمويه أقامه عنده اليوم، ودعاه فأكل عنده وشرب وأسكره وفي الصباح كتب داود إلى يوآب: "اجعلوا اوريا في وجه الحرب الشديدة، وارجعوا من ورائه فيضرب ويموت " وقد فعل يوآب ذلك فقتل اوريا، وأرسل إلى داود يخبره بذلك، فضم داود امرأة اوريا إلى بيته وصارت امرأة له بعد انتهاء مناحتها على بعلها. وفي الإصحاح الأول من إنجيل متى: أن سليمان بن داود ولد من تلك المرأة.
تأمل كيف تجرأ هذا الوضاع على الله؟ وكيف تصح نسبة هـذا الفعل إلى من له أدنى غيرة وحمية فضلا عن نبي من أنبياء الله؟ وكيف يجتمع هذا مع ما في إنجيل لوقا
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) كنة. زوجة الإبن.


ــ[55]ــ


من أن المسيح يجلس على كرسي داود أبيه؟!!
7- وفي الإصحاح الحادي عشر من الملوك الأول: أي سليمان كانت له سبعمائة زوجه من السيدات، وثلاثمائة من السراري، فأمالت النساء قلبه وراء آلهة اخرى "فذهب سليمان وراء عشتورث آلهة الصيدونيين، وملكوم، رجس العمونيين، وعمل سليمان الشر في عيني الرب… فقال الرب: إني امزق المملكة عنك تمزيقا وأعطيها لعبدك". وفي الثالث والعشرين من الملوك الثاني: أن المرتفعات التي بناها سليمان لعشتورث رجاسة الصيدونيين ولـ "كموش" رجاسة الموآبيين ولمكوم كراهة بني عمون نجسها الملك "يوشيا" وكسر التماثيل وقطع السواري، وكذلك فعل بجميع آثار الوثنيين.
هب أن النبي لا يلزم أن يكون معصوما - والأدلة العقلية قائمة على عصمته - فهل يجوز له في حكم العقل أن يعبد الأصنام، وأن يبني لها المرتفعات ثم يدعو الناس إلى التوحيد وإلى عبادة الله؟ كلا !!!
وفي الإصحاح الأول من كتاب "هوشع ": أن "أول ما كلم الرب هوشع. قال الرب لهوشع: اذهب خذ لنفسك امرأة زنى، وأولاد زنى، لأن الأرض قد زنت زنى تاركة الرب، فذهب وأخذ "جومر" بنت دبلايم فحبلت، وولد له ابنان وبنت". وفي الإصحاح الثالث: أن الرب قال له: "اذهب أيضا أحبب امرأة – حبيبة صاحب وزانية – كمحبة الرب لبني إسرائيل ".
أهكذا يكون أمر الله، يأمر نبيه بالزنى وبمحبة امرأة زانية؟ تعالى عن ذلك علوا كبيرا. ولا عجب في أن الكاتب لا يدرك قبح ذلك. وإنما العجب من الامم المثقفة ورجال العصر، ومهرة العلوم الناظرين في التوراة الرائجة، والمطلعين على ما


ــ[56]ــ


اشتملت عليه من الخرافات، كيف تعتقد بأنها وحي إلهي وكتاب سماوي. نعم ان تقليد الآباء كالغريزة الثانوية، يصعب التنازل عنه إلى اتباع الحق والحقيقة. والله الهادي والموفق.
9 ـ وفي الإصحاح الثاني عشر من إنجيل متى، والثالث من مرقس والثامن من لوقا: أن المسيح فيما هو يكلم الجموع "إذا أمه وإخوته قد وقفوا خارجا طالبين أن يكلموه. فقال له واحد: هو ذا أمك وإخوتك واقفون خارجا طالبين أن يكلموك. فأجاب وقال للقائل له: من هم أمي ومن هم إخوتي، ثم مد يده نحو تلاميذه وقال: ها أمي وإخوتي، لأن من يصنع مشيئة أبي الذي في السموات هو أخي وأختي وأمي ".
انظر إلى هذا الكلام وتأمل ما فيه من سخافة. ينتهر المسيح امه القديسة البرة ويحرمها رؤيته، ويعرض بقداستها، ويفضل تلاميذه عليها وهم الذين قال فيهم المسيح: "إنهم لا إيمان لهم" كما في الرابع من مرقس، وإنه ليس لهم من الإيمان مثل حبة خردل كما في السابع عشر من متى، وهم الذين طلب منهم المسيح أن يسهروا معه ليلة هجوم اليهود عليه فلم يفعلوا، ولما أمسكه اليهود في الظاهر تركه التلاميذ كلهم وهربوا، كما في الإصحاح السادس والعشرين من إنجيل متى، إلى ما سوى ذلك من الشنائع التي نسبتها إليهم الأناجيل.
10 ـ وفي الإصحاح الثاني من يوحنا: أن المسيح حضر مجلس عرس فنفد خمرهم، فعمل لهم ستة أجران من الخمر بطريق المعجزة. وفي الحادي عشر من متى، والسابع من لوقا: أن المسيح كان يشرب الخمر، بل كان شريب خمر (كثير الشرب لها).


ــ[57]ــ


حاشا قدس المسيح من هذا البهتان العظيم. فقد جاء في العاشر اللاويين أن الرب قال لهارون: "خمرا ومسكرا لا تشرب أنت وبنوك معك عند دخولكم خيمة الاجتماع لكي لا تموتوا، فرضا دهريا في أجيالكم، وللتمييز بين المقدس والمحلل، وبين النجس والطاهر". وفي الأول من لوقا في مدح يوحنا المعمدان: "لأنه يكون عظيما أمام الرب خمرا ومسكرا لا يشرب ". إلى غير ذلك مما دل على حرمة شرب الخمر في العهدين.
هذه أمثلة يسيرة في كتب العهدين الرائجة من سخافات وخرافات، وأضاليل وأباطيل لا تلتئم مع البرهان، ولا تتمشى مع المنطق الصحيح، وضعناها أمام القارئ ليمعن النظر فيها، وليحكم عقله ووجدانه. وهل يمكن أن يحكم أن محمدا (صلى الله عليه وآله) قد اقتبس معارفه، وأخذ محتويات قرآنه العظيم من هذه السخافات وهو على ما هو عليه من سمو المعارف، ورصانة التعليم؟ وهل يمكن أن تنسب هذه الكتب السخيفة إلى وحي السماء وهي التي لوثت قداسة الأنبياء بما ذكرناه وبما لم نذكره (1)؟
3 ـ القرآن والاستقامة في البيان:
قد علم كل عاقل جرّب الامور، وعرف مجاريها أن الذي يبني أمره على الكذب والاقتراء في تشريعه وأخباره، لا بد من أن يقع منه التناقض والإختلاف، ولا سيما إذا تعرّض لكثير من الامور المهمة في التشريع والاجتماع والعقائد، والنظم والأخلاقية المبتنية على أدق القواعد، وأحكم، الاسس، ولا سيما إذا طالت على ذلك المفتري
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) راجع الهدى إلى دين المصطفى. والرحلة المدرسية لشيخنا البلاغي. وكتابنا الاعجاز، تجد في هذه الكتب، الشيء الكثير من نقل هذه الخرافات. (المؤلف)


ــ[58]ــ


أيام، ومرّت عليه أعوام. نعم لا بد من أن يقع في التناقض والتهافت من حيث يريد أو لا يريد، لأن ذلك مقتضى الطبع البشري الناقص إذا خلا من التسديد. وقد قيل في المثل المعروف: "لا حافظة لكذوب ".
وقد تعرض القرآن الكريم لمختلف الشؤون، وتوسع فيها أحسن التوسع فبحث في الإلهيات ومباحث النبوات، ووضع الاصول في تعاليم الأحكام والسياسات المدنية، والنظم الاجتماعية، وقواعد الأخلاق. وتعرض لأمور أخرى تتعلق بالفلكيات والتاريخ، وقوانين السلم والحرب، ووصف الموجودات السماوية والأرضية من ملك وكواكب ورياح، وبحار ونبات وحيوان وإنسان، وتعرض لأنواع الأمثال، ووصف أهوال القيامة ومشاهدها فلم توجد فيه أية مناقضة ولا أدنى اختلاف، ولم يتباعد عن أصل مسلم عند العقل والعقلاء. وربما يستعرض الحادثة الواحدة مرتين أو أكثر، فلا تجد فيه أقل تهافت وتدافع. وإليك قصة موسى (عليه السلام)، فقد تكررت في القرآن مرارا عديدة، وفي كل مرة تجد لها مزية تمتاز بها من غير اختلاف في جوهر المعنى.
وإذا عرفت أن الآيات نزلت نجوما متفرقة على الحوادث، علمت أن القرآن روح من أمر الله، لأن هذا التفرق يقتضي بطبعه عدم الملاءمة والتناسب حين يجتمع. ونحن نرى القرآن معجزا في كلتا الحالتين، نزل متفرقا فكان معجزا حال تفرقه، فلما اجتمع حصل له إعجاز آخر. وقد أشار إلى هذا النحو من الإعجاز قوله تعالى:
{أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا}(4: 82).


ــ[59]ــ


وهذه الآية تدل الناس على أمر يحسّونه بفطرتهم، ويدركونه بغريزتهم، وهو أن من يعتمد في دعواه على الكذب والافتراء لا بد له من التهافت في القول، والتناقض في البيان، وهذا شيء لم يقع في الكتاب العزيز.
والقرآن يتبع هذه الخطة في كثير من استدلالاته واحتجاجاته، فيرشد الناس إلى حكم الفطرة، ويرجعهم إلى الغريزة، وهي أنجح طريقة في الإرشاد، وأقربها إلى الهداية. وقد أحست العرب بهذه الاستقامة في أساليب القرآن، واستيقنت بذلك بلغاؤهم. وإن كلمة الوليد بن المغيرة في صفة القرآن تفسر لنا ذلك، حيت قال -حين سأله أبو جهل أن يقول في القرآن قولا:
"فما أقول فيه؟ فوالله ما منكم رجل أعلم في الأشعار مني ولا أعلم برجزه مني، ولا بقصيده، ولا بأشعار الجن. والله ما يشبه الذي يقول شيئا من هذا، ووالله إن لقوله لحلاوة، وإنه ليحطم ما تحته، وإنه ليعلو ولا يعلى.
قال أبو جهل: والله لا يرضى قومك حتى تقول فيه قال الوليد: فدعني حتى أفكر فيه، فلما فكر قال: هذا سحر يأثره عن غيره " (1).
وفي بعض الروايات قال الوليد:
"والله لقد سمعت منه كلاما ما هو من كلام الانس ولا من كلام الجن، وإن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وإنه ليعلو ولا يعلى عليه، وما يقول هذا بشر..."(2).
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) تفسير الطبري: 29/ 98.
(2) تفسير القرطبي: 19/ 72.


ــ[60]ــ


وإذا أردت أن تحس ذلك من نفسك فانظر إلى الكتب المنسوبة إلى الوحي، فانك تجدها متناقضة المعاني، مضطربة الأسلوب، لا تنهض ولا تتماسك. وإذا نظرت إلى كتب العهدين، وما فيها من تضارب وتناقض تجلت لك حقيقة الأمر، وبان لك الحق من الباطل. وهنا نذكر أمثلة مما وقع في الأناجيل من هذا الاختلاف.
1 ـ في الإصحاح الثاني عشر من إنجيل متى، والحادي عشر من لوقا: إن المسيح قال: "من ليس معي فهو علي، ومن لا يجمع معي فهو يفرق". وقال في التاسع من مرقس، والتاسع من لوقا: "من ليس علينا فهو معنا".
2 ـ وفي التاسع عشر من متى، والعاشر من مرقس، والثامن عشر من لوقا: إن بعض الناس قال للمسيح. "أيها المعلم الصالح. فقال: لماذا تدعوني صالحا؟ ليس أحد صالحا إلا واحد وهو الله ". وفي العاشر من يوحنا أنه قال: "أنا هو الراعي الصالح. أما أنا فاني الراعي الصالح".
3 ـ وفي السابع والعشرين من متى قال: "كان اللصان اللذان صلبا معه - المسيح - يعيرانه "، وفي الثالث والعشرين من لوقا: "وكان واحد من المذنبين المعلقين يجدف عليه قائلا: إن كنت أنت المسيح فخلص نفسك وإيانا، فأجاب الآخر وانتهره قائلا: أولا أنت تخاف الله؟ إذ أنت تحت هذا الحكم بعينه ".
4 ـ وفي الإصحاح الخامس من انجيل يوحنا: "إن كنت أشهد لنفسي فشهادتي ليست حقا". وفي الثامن من هذا الإنجيل نفسه أنه قال: "وإن كنت أشهد لنفسي فشهادتي حق ".
هذه نبذة مما في الأناجيل - على ما هي عليه من صغر الحجم -من التضارب


ــ[61]ــ


والتناقض. وفيها كفاية لمن طلب الحق، وجانب التعصب والعناد(1).

2 ـ القرآن في نظامه وتشريعه:
يبدو لكل متتبع للتاريخ ما كانت عليه الأمم قبل الإسلام من الجهل، وما وصلت إليه من الانحطاط في معارفهم وأخلاقهم. فكانت الهمجية سائدة عليهم، والغارات متواصلة فيما بينهم، والقلوب متجهة إلى النهب والغنيمة، والخطى مسرعة إلى إصلاء نيران الحروب والمعارك. وكان للعرب القسم الوافر من خرافات العقيدة، ووحشية السلوك، فلا دين يجمعهم، ولا نظام يربطهم وعادات الآباء تذهب بهم يمينا وشمالا، وكان الوثنيون في بلاد العرب هم السواد الأعظم فكانت لهم - باختلاف قبائلهم وأسرهم - آلهة يعبدونها ويتخذونها شفعاء إلى الله، وشاع بينهم الإستقسام بالأنصاب والأزلام، واللعب بالميسر، حتى كان الميسر من مفاخرهم(2) وكان من عاداتهم التزويج بنساء الآباء (3) ولهم عادة أخرى هي أفظع منها - وهي وأد البنات - دفنهن في حال الحياة (4).
هذه بعض عادات العرب في جاهليتهم. وحين بزغ نور محمد (صلى الله عليه وآله) وأشرقت شمس الإسلام في مكة، تنوروا بالمعارف، وتخلقوا بمكارم الأخلاق، فاستبدلوا الوثنية بالتوحيد، والجهل بالعلم، والرذائل بالفضائل، والشقاق والتخالف بالإخاء والتآلف، فأصبحوا أمة وثيقة العرى مدت جناح ملكها على العالم، ورفعت أعلام
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) وللزيادة راجع كتابي "الهدى، والرحلة المدرسية" لشيخنا البلاغي (قدس سره) وكتابنا "نفحات الاعجاز". (المؤلف ).
(2) بلوغ الارب: 30 / 50 ، طبع مصر.
(3) نفس المصدر: 2: 52.
(4) نفس المصدر: 3 / 43.


ــ[62]ــ


الحضارة في أقطار الأرض وأرجائها. قال ألدوري (1):
"وبعد ظهور الذي جمع قبائل العرب أمة واحدة، تقصد مقصدا واحدا، ظهرت للعيان أمة كبيرة، مدت جناح ملكها من نهر تاج إسبانيا إلى نهر الجانج في الهند، ورفعت على منار الإشادة أعلام التمدن في أقطار الأرض، أيام كانت أوروبا مظلمة بجهالات أهلها في القرون المتوسطة. ثم قال: إنهم كانوا في القرون المتوسطة مختصين بالعلوم من بين سائر الأمم، وانقشعت بسببهم سحائب البربرية التي امتدت على اوروبا حين اختل نظامها بفتوحات المتوحشين "(2).
نعم إن جميع ذلك كان بفضل تعاليم كتاب الله الكريم الذي فاق جميع الصحف السماوية. فإن للقرآن في أنظمته وتعاليمه مسلكا يتمشى مع البراهين الواضحة، وحكم العقل السليم، فقد سلك سبيل العدل، وتجنب عن طرفي الإفراط والتفريط.
فتراه في فاتحة الكتاب يطلب عن لسان البشر من الله الهداية إلى الصراط المستقيم بقوله:
{إهدنا الصراط المستقيم} (1: 6).
وهذه الجملة على وجازتها واختصار ألفاظها واسعة المعنى بعيدة المدى. وسنتعرض لما يتيسر من بيان ذلك عند تفسيرنا للآية المباركة إن شاء الله تعالى.
وقد أمر القرآن بالعدل وسلوك الجادة الوسطى في كثير من آياته. فقال:
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) هو أحد وزراء فرنسا السابقين.
(2) صفوة العرفان لمحمد فريد وجدي ص 119.


ــ[63]ــ


{إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل 4: 58. اعدلوا هو أقرب للتقوى5: 8. وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى 6: 152. إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون} (16: 90).
نعم قد أمر القرآن بالعدل، وسلك في تعاليمه مسلك الاستقامة، فنهى عن الشح في عدة مواضع، وعرف الناس مفاسده وعواقبه:
{ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرا لهم بل هو شر لهم سيطوقون بما بخلوا به يوم القيامة ولله ميراث السماوات والأرض والله بما تعملون خبير} " 3: 18".
بينما قد نهى عن الإسراف والتبذير ودل الناس على مفاسدهما:
{ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين 6: 141. إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين 17: 27. ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا: 29}.
وأمر بالصبر على المصائب وبتحمل الأذى، ومدح الصابر على صبره، ووعده الثواب العظيم.
{إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب 39: 10. والله يحب الصابرين 3: 146}.
وإلى جانب هذا لم يجعل المظلوم مغلول اليد أمام ظالمه، بل أباح له أن ينتقم من الظالم بمثل ما اعتدى عليه، حسما لمادة الفساد، وتحقيقا لشريعة العدل.


ــ[64]ــ


{فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم} (2: 194).
وجوز لولي المقتول أن يقتص من القاتل العامد.
{ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل}(17 : 33).
والقرآن بسلوكه طريق الاعتدال، وأمره بالعدل والاستقامة قد جمع نظام الدنيا إلى نظام الآخرة، وتكفل بما يصلح الأولى، وبما يضمن السعادة في الأخرى، فهو الناموس الأكبر جاء به النبي الأعظم ليفوز به البشر بكلتا السعادتين، وليس تشريعه دنيويا محضا لا نظر فيه إلى الآخرة، كما تجده في التوراة الرائجة، فإنها مع كبر حجمها لا تجد فيها موردا تعرضت فيه لوجود القيامة، ولم تخبر عن عالم آخر للجزاء على الأعمال الحسنة والقبيحة. نعم صرحت التوراة بأن أثر الطاعة هو الغنى في الدنيا، والتسلط على الناس باستعبادهم، وأن أثر المعصية والسقوط عن عين الرب هو الموت وسلب الأموال والسلطة. كما أن تشريع القرآن ليس أخرويا محضا لا تعرض له بتنظيم أمور الدنيا كما في شريعة الإنجيل. فشريعة القرآن شريعة كاملة تنظر إلى صلاح الدنيا مرة وإلى صلاح الآخرة مرة أخرى. فيقول في تعليماته:
{ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك الفوز العظيم 4: 13. ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها وله عذاب مهين 14. فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره 99: 7. ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره: 8. وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا. 28: 77}.


ــ[65]ــ


ويحث الناس - في كثير من آياته -على تحصيل العلم، وملازمة التقوى بينما يبيح لهم لذائذ الحياة وجميع الطيبات:
{قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق } (7: 32).
ويدعو كثيرا إلى عبادة الله، وإلى التفكر في آياته التشريعية والتكوينية وإلى التأمل والتدبر في الآفاق وفي الأنفس، ومع ذلك لم يقتصر على هذه الناحية التي توصل الإنسان بربه، بل تعرض للناحية الأخرى التي تجمعه مع أبناء نوعه.
وأحل له البيع:
{وأحل الله البيع وحرم الربا} (2: 275).
وأمره بالوفاء بالعقود:
{يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود}"1:5".
وأمر بالتزويج الذي يكون به بقاء النوع الإنساني.
{وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله والله واسع عليم 24: 32. فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى و ثلاث ورباع فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة 4 : 3}.
وأمر الإنسان بالإحسان إلى زوجته، والقيام بشؤونها، وإلى الوالدين والأقربين، وإلى عامة المسلمين، بل وإلى البشر كافة. فقال:
{وعاشروهن بالمعروف 4: 19. ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف 2: 228. واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا وبذي القربى واليتامى


ــ[66]ــ


والمساكين والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل وما ملكت أيمانكم إن الله لا يحب من كان مختالا فخورا 4: 36. وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدين 28: 77. إن رحمة الله قريب من المحسنين 7: 56. وأحسنوا إن الله يحب المحسنين 2: 195 }.
هذه أمثلة من تعاليم القرآن التي نهج فيها منهج الاعتدال، وقد أوجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على جميع أفراد الأمة، ولم يخصه بطائفة خاصة، ولا بأفراد مخصوصين، وهو بهذا التشريع قد فتح لتعاليمه أبواب الانتشار ونفخ فيها روح الحياة والاستمرار. فقد جعل كل واحد من أفراد العائلة والبيئة مرشدا لهم، ورقيبا عليهم، بل جعل كل مسلم دليلا وعينا على سائر المسلمين يهديهم إلى الرشاد، ويزجرهم عن البغي والفساد، فالمسلمون بأجمعهم مكلفون بتبليغ الأحكام، وبتنفيذها، أفهل تعلم جنودا هي أقوى وأعظم تأثيرا من هذه الجنود ونحن نرى السلاطين ينفذون إرادتهم على الرعية بقوة جنودهم. ومن الواضح أنهم لا يلازمون الرعية في جميع الأمكنة والأزمان، فكم فرق بين جند الإسلام، وجند السلاطين.
ومن أعظم تعاليم القرآن التي تجمع كلمة المسلمين، وتوحد بين صفوفهم: المؤاخاة بين طبقات المسلمين، ونبذ الميزات إلا من حيث العلم والتقوى حيث يقول:
{إن أكرمكم عند الله أتقاكم 49: 13. قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون }(39: 9 ).
قال النبي (صلى الله عليه وآله):
"إن الله عز وجل أعز بالإسلام من كان في الجاهلية ذليلا،


ــ[67]ــ


وأذهب بالإسلام ما كان من نخوة الجاهلية وتفاخرها بعشائرها، وباسق أنسابها، فالناس اليوم كلهم أبيضهم وأسودهم، وقرشيهم وعربيهم وعجميهم من آدم. وان آدم خلقه الله من طين، وان أحب الناس إلى الله عز وجل يوم القيامة أطوعهم له وأتقاهم (1)... "
وقال: " فضل العالم على سائر الناس كفضلي على أدناكم "(2).
فالإسلام قدّم سلمان الفارسي لكمال إيمانه حتى جعله من أهل البيت (3) وآخّر أبالهب عم رسول الله (صلى الله عليه وآله) لكفره.
انك ترى أن نبي الإسلام لم يفتخر على قومه بنسب ولا حسب، ولا بغيرهما مما كان الافتخار به شائعا في عصره، بل دعاهم إلى الإيمان بالله وباليوم الآخر، وإلى كلمة التوحيد، وتوحيد الكلمة، وبذلك قد تمكن أن يسيطر على أمة كانت تتفاخر بالأنساب بقلوب ملؤها الشقاق والنفاق، فأثر في طباعها حتى أزال الكبر والنخوة منها، فأصبح الغني الشريف يزوج ابنته من المسلم الفقير وإن كان أدنى منه في النسب (4).
هذه شريعة القرآن في إرشاداته وتعاليمه، تتفقد مصالح  الفرد، ومصالح المجتمع، وتضع القوانين التي تكفل جميع ذلك، ما يعود منها إلى الدنيا وما يرجع إلى الآخرة. فهل يشك عاقل بعد هذا في نبوة من جاء بهذا الشرع العظيم، ولا سيما إذا لاحظ أن
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الفروع من الكافي: 5 / 340، الباب 21، الحديث: 1.
(2) الجامع الصغير بشرح المناوي: 4 / 432.
(3) البحار: 10 / 123، باب: 8، فضائل سلمان.
(4) ومن ذلك تزويج زياد بن لبيد وهو من أشرف بني بياضة ابنته من جويبر لإسلامه. وقد كان رجلا قصيرا ذميما محتاجا عاريا، وكان من قباح السودان. (الفروع من الكافي: 5 / 340، الباب 12، الحديث: 1 باب ان المؤمن كفؤ المؤمنة).


ــ[68]ــ


نبي الإسلام قد نشأ بين أمة وحشية، لا معرفة لها بشيء من هذه التعليمات؟!


4 ـ القرآن والاتقان في المعاني:
تعرض القرآن الكريم لمواضيع كثيرة العدد، متباعدة الأغراض من الإلهيات والمعارف، وبدء الخلق والمعاد، وما وراء الطبيعة من الروح والملك وإبليس والجن، والفلكيات، والأرض، والتاريخ، وشؤون فريق من الأنبياء الماضين، وما جرى بينهم وبين أممهم، وللأمثال والاحتجاجات والأخلاقيات، والحقوق العائلية، والسياسات المدنية، والنظم الاجتماعية والحربية، والقضاء والقدر، والكسب والاختيار، والعبادات والمعاملات، والنكاح والطلاق، والفرائض، والحدود والقصاص وغير ذلك. وقد أتى في جميع ذلك بالحقائق الراهنة، التي لا يتطرق إليها الفساد والنقد في أية جهة من جهاتها، ولا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها، وهذا شيء يمتنع وقوعه عادة من البشر - ولا سيما ممن نشأ بين أمة جاهلة لا نصيب لها من المعارف، ولا غيرها من العلوم - ولذلك نجد كل من ألّف في عالم من العلوم النظرية لا تمضي على مؤلّفه مدة حتى يتضح بطلان كثير من آرائه. فان العلوم النظرية كلما ازداد البحث فيها وكثر، ازدادت الحقائق فيها وضوحا، وظهر للمتأخر خلاف ما أثبته المتقدم، والحقيقة - كما يقولون - بنت البحث، وكم ترك الأول للآخر. ولهذا نرى كتب الفلاسفة الأقدمين، ومن تأخر عنهم من أهل التحقيق والنظر قد صارت عرضة لسهام النقد ممن تأخر، حتى أن بعض ما اعتقده السابقون برهانا يقينيا، أصبح بعد نقده وهما من الأوهام، وخيالا من الأخيلة.
والقرآن مع تطاول الزمان عليه، وكثرة أغراضه، وسمو معانيه، لم يوجد فيه ما


ــ[69]ــ


يكون معرضا للنقد والاعتراض. اللهم إلا أوهام من بعض المكابرين، حسبوها من النقد. وسنتعرض لها، ونوضح بطلانها إن شاء الله تعالى.

5 ـ القرآن والإخبار بالغيب:
أخبر القرآن الكريم في عدة من آياته عن امور مهمة، تتعلق بما يأتي من الأنباء والحوادث، وقد كان في جميع ما أخبر به صادقا، لم يخالف الواقع في شيء منها. ولا شك في أن هذا من الإخبار بالغيب، ولا سبيل إليه غير طريق الوحي والنبوة.
فمن الآيات التي أنبأت عن الغيب قوله تعالى:
{وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين} (8: 7). وهذه الآية نزلت في وقعة بدر، وقد وعد الله فيها المؤمنين بالنصر على عدوهم وبقطع دابر الكافرين، والمؤمنون على ما هم عليه من قلة العدد والعدة، حتى أن الفارس فيهم كان هو المقداد، أو هو والزبير بن العوام والكافرون هم الكثيرون الشديدون في القوة، وقد وصفتهم الآية بأنهم ذووا شوكة، وأن المؤمنين أشفقوا من قتالهم، ولكن الله يريد أن يحق الحق بكلماته. وقد وفى للمؤمنين بوعده، ونصرهم على أعدائهم، وقطع دابر الكافرين.
ومنها قوله تعالى:
{فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين 15: 94. إنا كفيناك المستهزئين: 95. الذين يجعلون مع الله إلها آخر فسوف يعلمون: 96}.


ــ[70]ــ


فإن هذه الآية الكريمة نزلت بمكة في بدء الدعوة الإسلامية، وقد أخرج البزار والطبراني في سبب نزولها عن أنس بن مالك: أنها نزلت عند مرور النبي (صلى الله عليه وآله) على أناس بمكة، فجعلوا يغمزون في قفاه، ويقولون: "هذا الذي يزعم أنه نبي ومعه جبرئيل" (1). فأخبرت الآية عن ظهور دعوة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ونصرة الله له، وخذلانه للمشركين الذين ناوؤوه واستهزؤوا بنبوته، واستخفوا بأمره. وكان هذا الإخبار في زمان لم يخطر فيه على بال أحد
من الناس انحطاط شوكة قريش، وانكسار سلطانهم، وظهور النبي (صلى الله عليه وآله) عليهم.
ونظير هذه الآية قوله تعالى:
{هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون 61: 9}.
ومن هذه الأنباء قوله تعالى:
{غلبت الروم 30: 2. في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون: 3}.
وقد وقع مما أخبرت به الآية بأقل من عشر سنين، فغلب ملك الروم، ودخل جيشه مملكة الفرس.
ومنها قوله تعالى:
{أم يقولون نحن جميع منتصر 54: 44. سيهزم الجمع ويولون الدبر:45}.
فأخبر عن انهزام جمع الكفار وتفرقهم وقمع شوكتهم، وقد وقع هذا في يوم بدر أيضا حين ضرب أبوجهل فرسه، وتقدم نحو الصف الأول قائلا: "نحن ننتصر اليوم
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) لباب العقول ص 133 جلال الدين السيوطي.


ــ[71]ــ


من محمد وأصحابه " فأباده الله وجمعه، وأنار الحق ورفع مناره، وأعلى كلمته، فانهزم الكافرون، وظفر المسلمون عليهم حينما لم يكن يتوهم أحد بأن ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا - ليس لهم عدة، ولا يصحبون غير فرس أو فرسين وسبعين بعيرا يتعاقبون عليها - يظفرون بجمع كبير تام العدة وافر العدد، وكيف يستفحل أمر اولئك النفر القليل على هذا العدد الكثير، حتى تذهب شوكته كرماد اشتدت به الريح، لولا أمر الله وإحكام النبوة وصدق النيات؟!
ومنها قوله تعالى:
{تبت يدا أبي لهب وتب.. سيصلى نارا ذات لهب. وامراته حمالة الحطب}(111: 2 ).
وقد تضمنت هذه السورة نبأ دخول أبي لهب، ودخول زوجته النار. ومعنى ذلك هو الإخبار عن عدم تشرفهما بقبول الإسلام إلى آخر حياتهما، وقد وقع ذلك.

6 ـ القرآن وأسرار الخليقة:

أخبر القرآن الكريم في غير واحدة من آياته عما يتعلق بسنن الكون، ونواميس الطبيعة، والأفلاك، وغيرها مما لا سبيل إلى العلم به في بدء الإسلام إلا من ناحية الوحي الإلهي. وبعض هذه القوانين وإن علم بها اليونانيون في تلك العصور أو غيرهم ممن لهم سابق معرفة بالعلوم، إلا أن الجزيرة العربية كانت بعيدة عن العلم بذلك. وإن فريقا مما أخبر به القرآن لم يتضح إلا بعد توفر العلوم، وكثرة الاكتشافات. وهذه الأنباء في القرآن كثيرة، نتعرض لها عند تفسيرنا الآيات التي تشير إليها إن شاء الله تعالى.


ــ[72]ــ


وقد أخذ القرآن بالحزم في إخباره عن هذه الأمور، فصرّح ببعضها حيث يحسن التصريح. وأشار إلى بعضها حيث تحمد الإشارة، لأن بعض هذه الأشياء مما يستعصي على عقول أهل ذلك العصر، فكان من الرشد أن يشير إليها إشارة تتضح لأهل العصور المقبلة حين يتقدم العلم، وتكثر الاكتشافات.
ومن هذه الأسرار التي كشف عنها الوحي السماوي، وتنبه إليها المتأخرون ما في قوله تعالى.
{وانبتنا فيها من كل شيء موزون} (15: 19).
فقد دلت هذه الآية الكريمة على أن كل ما ينبت في الأرض له وزن خاص، وقد ثبت أخيرا أن كل نوع من أنواع النبات مركب من أجزاء خاصة على وزن مخصوص، بحيث لو زيد في بعض أجزائه أو نقص لكان ذلك مركبا آخر. وان نسبة بعض الأجزاء إلى بعض من الدقة بحيث لا يمكن ضبطها تحقيقا بأدق الموازين المعروفة للبشر.
ومن الأسرار الغريبة - التي أشار إليها الوحي الإلهي - حاجة إنتاج قسم من الأشجار والنبات إلى لقاح الرياح. فقال سبحانه:
{وأرسلنا الرياح لواقح} ( 15: 22).
فإن المفسرين الأقدمين وإن حملوا اللقاح في الآية الكريمة على معنى الحمل، باعتبار أنه أحد معانيه، وفسروا الآية المباركة بحمل الرياح للسحاب، أو المطر الذي يحمله السحاب، ولكن التنبيه على هذا المعنى ليس فيه كبير اهتمام، ولا سيما بعد ملاحظة أن الرياح لا تحمل السحاب، وإنما تدفعه من مكان إلى مكان آخر.


ــ[73]ــ


والنظرة الصحيحة في معنى الآية - بعد ملاحظة ما اكتشفه علماء النبات - تفيدنا سرا دقيقا لم تدركه أفكار السابقين، وهو الإشارة إلى حاجة إنتاج الشجر والنبات إلى اللقاح. وأن اللقاح قد يكون بسبب الرياح، وهذا كما في المشمش والصنوبر والرمان والبرتقال والقطن، ونباتات الحبوب وغيرها، فإذا نضجت حبوب الطلع انفتحت الأكياس، وانتثرت خارجها محمولة على أجنحة الرياح فتسقط على مياسم الأزهار الأخرى عفوا.
وقد أشار سبحانه وتعالى إلى أن سنة الزواج لا تختص بالحيوان، بل تعم النبات بجميع أقسامه بقوله:
{ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين} (13: 3).
{سبحان الذي خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض ومن أنفسهم ومما لا يعلمون }(36: 36).
ومن الأسرار التي كشف عنها القرآن هي حركة الأرض. فقد قال عز من قائل:
{الذي جعل لكم الأرض مهدا} (20: 53).
تأمل كيف تشير الآية إلى حركة الأرض إشارة جميلة لم تتضح إلا بعد قرون، وكيف تستعير للأرض لفظ المهد الذي يعمل للرضيع، يهتز بنعومة لينام فيه مستريحا هادئا؟ وكذلك الأرض مهد للبشر وملائمة لهم من جهة حركتها الوضعية والانتقالية، وكما أن تحرك المهد لغاية تربية الطفل واستراحته، فكذلك الأرض، فان حركتها اليومية والسنوية لغاية تربية الإنسان بل وجميع ما عليها من الحيوان والجماد والنبات.


ــ[74]ــ


تشير الآية المباركة إلى حركة الأرض إشارة جميلة، ولم تصرح بها لأنها نزلت في زمان أجمعت عقول البشر فيه على سكونها، حتى أنه كان يعد من الضروريات التي لا تقبل التشكيك (1).
ومن الأسرار التي كشف عنها القرآن قبل أربعة عشر قرنا. وجود قارة أخرى. فقد قال سبحانه وتعالى:
{رب المشرقين ورب المغربين} (55: 17).
وهذه الآية الكريمة قد شغلت أذهان المفسرين قرونا عديدة، وذهبوا في تفسيرها مذاهب شتى. فقال بعضهم: المراد مشرق الشمس ومشرق القمر ومغرباهما، وحمله بعضهم على مشرقي الصيف والشتاء ومغربيهما. ولكن الظاهر أن المراد بها الإشارة إلى وجود قارة أخرى تكون على السطح الآخر للأرض يلازم شروق الشمس عليها غروبها عنا. وذلك بدليل قوله تعالى:
{ياليت بيني وبينك بعد المشرقين فبئس القرين} (43:38).
فإن الظاهر من هذه الآية أن البعد بين المشرقين هو أطول مسافة محسوسة فلا يمكن حملها على مشرقي الشمس والقمر ولا على مشرقي الصيف والشتاء، لأن المسافة بين ذلك ليست أطول مسافة محسوسة فلا بد من أن يراد بها المسافة التي ما بين المشرق والمغرب. ومعنى ذلك أن يكون المغرب مشرقا لجزء آخر من الكرة الأرضية ليصح هذا التعبير، فالآية تدل على وجود هذا الجزء الذي لم يكتشف إلا بعد مئات من السنين من نزول القرآن.
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) واجترأ الحكيم " غآليله " بعد الالف الهجري فأثبت الحركتين "الوضعية والانتقالية" للأرض فأهانوه، واضطهدوه حتى قارب الهلكة، ثم سجن طويلا مع جلالته، وحقوقه العلمية فصار حكماء الأفرنج يكتمون كشفياتهم الأنيقة المخالفة للخرافات العتيقة خوفا من الكنيسة الرومية. "الهيئة والاسلام" ص 63 طبعة بغداد. 


ــ[75]ــ


فالآيات التي ذكرت المشرق والمغرب بلفظ المفرد يراد منها النوع كقوله تعالى:
{ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله}(2: 115).
والآيات التي ذكرت ذلك بلفظ التثنية يراد منها الإشارة إلى القارة الموجودة على السطح الآخر من الأرض.
والآيات التي ذكرت ذلك بلفظ الجمع يراد منها المشارق والمغارب باعتبار أجزاء الكرة الأرضية كما نشير إليه.
ومن الأسرار التي أشار إليها القرآن الكريم كروية الأرض فقال تعالى:
{وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها 7: 137. رب السماوات والأرض وما بينهما ورب المشارق 37: 5. فلا أقسم برب المشارق والمغارب إنا لقادرون 70: 40}.
ففي هذه الآيات الكريمة دلالة على تعدد مطالع الشمس ومغاربها، وفيها إشارة إلى كروية الأرض، فإن طلوع الشمس على أي جزء من أجزاء الكرة الأرضية يلازم غروبها عن جزء آخر، فيكون تعدد المشارق والمغارب واضحا لا تكلف فيه ولا تعسف. وقد حمل القرطبي وغيره المشارق والمغارب على مطالع الشمس ومغاربها باختلاف أيام السنة، لكنه تكلف لا ينبغي أن يصار إليه، لأن الشمس لم تكن لها مطالع معينة ليقع الحلف بها، بل تختلف تلك باختلاف الأراضي فلا بد من أن يراد بها المشارق والمغارب التي تتجدد شيئا فشيئا باعتبار كروية الأرض وحركتها.


ــ[76]ــ


وفي أخبار أئمة الهدى من أهل البيت (عليهم السلام) وأدعيتهم وخطبهم ما يدل على كروية الأرض.
ومن ذلك ما روي عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال:
"صحبني رجل كان يمسي بالمغرب ويغلس بالفجر، وكنت أنا أصلي المغرب إذا غربت الشمس، وأصلي الفجر إذا استبان لي الفجر. فقال لي الرجل: ما يمنعك أن تصنع مثل ما أصنع؟ فإن الشمس تطلع على قوم قبلنا وتغرب عنا، وهي طالعة على قوم آخرين بعد. فقلت: إنما علينا أن نصلي إذا وجبت الشمس عنا وإذا طلع الفجر عندنا، وعلى أولئك أن يصلوا إذا غربت الشمس عنهم"(1).
يستدل الرجل على مراده باختلاف المشرق والمغرب الناشئ عن استدارة الأرض، ويقره الإمام (عليه السلام) على ذلك ولكن ينبهه على وظيفته الدينية.
ومثله قول الإمام (عليه السلام) في خبر آخر: "إنما عليك مشرقك ومغربك "(2).
ومن ذلك ما ورد عن الإمام زين العابدين (عليه السلام) في دعائه عند الصباح والمساء:
"وجعل لكل واحد منهما حدا محدودا، وأمدا ممدودا، يولج كل واحد منهما في صاحبه، ويولج صاحبه فيه بتقدير منه للعباد "(3).
أراد صلوات الله عليه بهذا البيان البديع التعريف بما لم تدركه العقول في تلك
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الوسائل: 4 / 179، الحديث: 4848.
(1) نفس المصدر: 4 / 198، الحديث: 4912.
(3) الصحيفة السجادية الكاملة دعاؤه (عليه السلام) عند الصباح والمساء.


ــ[77]ــ


العصور وهو كروية الأرض، وحيث أن هذا المعنى كان بعيدا عن أفهام الناس لانصراف العقول عن بالإشارة إلى ذلك على وجه بليغ، فإنه (عليه السلام) لو كان بصدد بيان ما يشاهده عامة الناس من أن الليل ينقص تارة فتضاف من ساعاته إلى النهار، وينقص النهار تارة أخرى فتضاف من ساعاته إلى الليل، لاقتصر على الجملة الأولى: "يولح كل واحد منهما في صاحبه" ولما احتاج إلى ذكر الجملة الثانية: "ويولج صاحبه فيه" إذن فذكر الجملة الثانية إنما هو للدلالة على أن إيلاج كل من الليل والنهار في صاحبه يكون في حال إيلاج صاحبه فيه، لأن ظاهر الكلام أن الجملة الثانية حالية، ففي هذا دلالة على كروية الأرض، وان إيلاج الليل في النهار – مثلا – عندنا يلازم إيلاج النهار في الليل عند قوم آخرين. ولو لم تكن مهمة الإمام (عليه السلام) الإشارة إلى هذه النكتة العظيمة لم تكن لهذه الجملة الأخيرة فائدة، ولكانت تكرارا معنويا للجملة الأولى.
ولقد اقتصرنا في بيان إعجاز القرآن على هذه النواحي، وفي ذلك كفاية ودلالة على أن القرآن وحي إلهي، وخارج عن طوق البشر.
وكفى بالقرآن دليلا على كونه وحيا إلهيا أنه المدرسة الوحيدة التي تخرج منها أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) الذي يفتخر بفهم كلماته كل عالم نحرير وينهل من يحار علمه كل محقق متبحر. وهذه خطبه في نهج البلاغة، فانه حينما يوجه كلامه فيها إلى موضوع لا يدع فيه مقالا لقائل، حتى ليخال من لا معرفة له بسيرته أنه قد قضى عمره في تحقيق ذلك الموضوع والبحث عنه، فمما لا شك فيه أن هذه المعارف والعلوم متصلة بالوحي، ومقتبسة من أنواره، لأن من يعرف تاريخ جزيرة العرب - ولا سيما الحجاز - لا يخطر بباله أن تكون هذه العلوم قد أخذت عن غير منبع


ــ[78]ــ


الوحي. ولنعم ما قيل في وصف نهج البلاغة: "أنه دون كلام
الخالق، وفوق كلام المخلوقين "(1).
بل أعود فأقول: إن تصديق علي (عليه السلام) - وهو على ما عليه من البراعة في البلاغة، والمعارف وسائر العلوم - لإعجاز القرآن هو بنفسه دليل على أن القرآن وحي إلهي، فان تصديقه بذلك لا يجوز أن يكون ناشئا عن الجهل والاغترار، كيف وهو رب الفصاحة والبلاغة، وإليه تنتهي جميع العلوم الإسلامية وهو المثل الأعلى في المعارف، وقد اعترف بنبوغه وفضله المؤالف والمخالف. وكذلك لا يجوز أن يكون تصديقه هذا تصديقا صوريا ناشئا عن طلب منفعة دنيوية من جاه أو مال ، كيف وهو منار الزهد والتقوى، وقد أعرض عن الدنيا وزخارفها، ورفض زعامة المسلمين حين اشترط عليه أن يسير بسيرة الشيخين، وهو الذي لم يصانع معاوية بإبقائه على ولايته أياما قليلة، مع علمه بعاقبة الأمر إذا عزله عن الولاية. وإذن فلا بد من أن يكون تصديقه بإعجاز القرآن تصديقا حقيقيا، مطابقا للواقع، ناشئا عن الإيمان الصادق. وهذا هو الصحيح، والواقع المطلوب.
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) مقدمة شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد.